موقع المرام الثقافي elmaram.blogspot.com

موقــــــع المرام الثقــــــــــافي elmaram.blogspot.com

الأحد، 24 يوليو 2011

المصور المتجول..ذاكرة متلاشية على الطريق


يتذكره الأطفال حتما في الأعياد والمنتزهات والحدائق العامة، يتأبط كاميرته الجاهزة دائما، لتوثيق الفرح العابر. وأمام المحاكم المختلطة والدوائر الرسمية ومراكز توثيق الأوراق يتذكره الكبار أيضا، وهو يحمل على كتفه صندوقه السحري ومعدات التصوير الخفيفة لالتقاط الصورة المناسبة لهم في الوقت المناسب، يخرجها في نفس اللحظة ويجففها وقت بزوغها من كاميرته ورقة طرية مدهشة.

حكاية الصورة حكاية قديمة، وربما كان مبررا للمفكر الفرنسي ريجييس دبريه ــ كل ذلك الشغف ــ في افتتانه على مدى عقود بدراساته ومقارباته السيميائية لبلاغتها أو ما سماه بشعرية الصورة، ولو كان ريجيس- صديق جيفارا الحميم - بيننا اليوم، ذلك الرجل الشغوف بالسينما وبكل ما هو بصري، لأعاد كلامه في تأليه الصورة وفتنتها.

وتنازل عن كل النصب التذكارية لصديقه جيفارا، الموزعة في القارات الخمس، لذلك الجندي المجهول، المسمى بالمصور المتجول، السارح في الشوارع في خجل، الهائم على وجهه في الميادين والساحات العامة، وقرب الأنصبة والتماثيل ومزارات المدينة، يتحين الفرص حيثما يتجمهر الناس، يوثق فرح الأطفال وابتساماتهم العابرة، وذكريات الكبار وآمال حياتهم في حراكهم اليومي في توثيق جميل للحظة والزمن.

 

رجل الشمس

تلك الومضة السريعة للكاميرا، تحمل أحيانا الكثير من الآمال والأحلام وألق الذكريات، تحنط دقائق الزمن في لحظة محددة، وربما كان الكاتب المصري يحيى حقي في قصة »المحلاج«، التي نشرت في مجموعته القصصية »أم العواجز«، سباقا لذلك التوصيف المذهل لحياة شخصية المصور المتجول، الذي تمثل في صديقه »شوكت«، الرجل الذي يقول إنه لا يراه إلا لماما، لأنه يستيقظ مع الشمس، فيمرق إلى ميادين المدينة وحاراتها وأزقتها في رحلة النهار، يتفرس في الوجوه والملامح، ويقف لساعات يوثق حبور الناس، وحين يعود يستأنس بصديقه في المقهى فيروي له مشاهداته اليومية.

ومن ذلك أنه أصبح من بين زبائنه من يألف الكاميرا، فيقفون وهم يقلدون النجوم، فيثبتون في أماكنهم لا يتحولون عنها، يوجهون إليك نفس النظرة سنين طويلة، كأنهم قطع في متحف. فيما كان بعض زبائنه في السابق يشخصون بأبصارهم إلى العدسة، ويحملقون فيها، كأنما يتوقعون منها مفاجأة، أذرعهم متصلبة، وأيديهم حائرة، فهي إما مستقرة على الركبتين، أصابعها تارة منفرجة (ولا تدري لماذا)، وتارة مضمومة، أو ملصقة بأفخاذهم وأصابعها ممدودة كوقفة صاحب الحلة الجديدة أمام الخياط في أول تجربة.

 مرويات العدسة

ويستمر يحيى حقي في ذلك التوصيف المذهل على لسان صديقه المصور المتجول الذي يحكي له، فيقول إن إثبات الود ــ أمام عدسة المصور ــ بين الصديقين أن يتصافحا، وبعضهم يرفع يده إلى رأسه يحييك أنت والمصور والعالم أجمع، أما الفتيات ــ أمام العدسة ــ فكالنباتات البرية لا تزال بشوكها. ويسره وهو يقول »لا تضحك من أحذيتهن أو تسريحة شعرهن، بل انظر إلى العيون تجد جذلا فطريا وفرحة الطفل بلعبة جديدة، أما إذا اعتمدت إحداهن برأسها على كفها فوق المائدة، وتاهت نظرتها، ومن خلفها ستار عليه رسم زهرية كبيرة أو درج فخم، فأعلم أنها بنت مدارس، ابتليت بداء الحب«.

وربما للزمن دور في تلك المشاهد، حيث كان لبراح الوقت، وقلة الكاميرات، ما يفسر كل ذلك الشغف، كما كان للصورة دلالة كبيرة، فالإطارات المعلقة على جدران البيت، وألبومات حفظ الذكريات، كان لها ألف معنى، وكأن الصورة بكل ما تحمله من أشخاص كائن حي، يحفظ روح الأحباب والأهل والأصدقاء واللحظات الجميلة، ولذلك حدت سرعة التقانة والتطور في مجال التصوير في جميع مراحلها، وانتقالها من الأبيض والأسود، إلى كوكتيل الألوان الباهتة في مرحلة أولى، حتى وصولها إلى المرحلة الرقمية الأنقى في فرز الألوان، كل مظاهر الاحتفاء بذلك الرجل الجميل.

لذلك كان المصور يتواجد في كل الأماكن، عند أبواب السيرك وبين خيامه، أمام السينما وفي المقاهي، في المزارات الكبيرة، ربما كانوا عدة مصورين يشكلون زحمة، وهم يتنازعون زبونا، لالتقاط صورة له، يفرح بها ويفتخر. ويحفل الأدب بحكايات المصورين المتجولين، وربما كان الأدب الواقعي في بدايات القرن الماضي أكثر احتفاء به، خاصة مع القاص الروسي انطوان تشيكوف، والذي رسم ملامح عدة لشخصيات في المدينة وفي الشوارع من بينها المصور المتجول الذي يذرع الشوارع لتوثيق الزمن والحياة.

 فنان بوهيمي في السينما

حفلت السينما العالمية برسم ملامح تلك الشخصية، بجميع أبعادها، وإن كان الفن الغربي تشعب في أكثر من جانب منها، فأصبح رسام البروتريه، الذي يجلس طول النهار في الشوارع يرسم الوجوه، صنوا شبيها بالمصور المتجول، حيث رسمته السينما في أكثر الأوقات على شكل فنان بوهيمي، يعيش في الشوارع من أجل الفن، فتداخلت الصور بين الفن والحياة، والتسكع وطلب لقمة العيش، في توليفة منوعة قدمتها السينما لهذه الشخصيات.

وتمددت الصورة بشكل أكبر لتشمل المصورين المحترفين المتفرغين للفن، كما في فيلم »جسور مقاطعة ماديسون«، الذي تم إنتاجه في عام ٥٩٩١، من بطولة كلينت ايستود وميرل ستريب، حيث يلعب استود شخصية المصور المهوس بتصوير الجسور قرب طرق »إيوا« الريفية.

وكما تداخلت في السينما نفس الصورة بين المصور والرسام، تداخلت في الرواية أيضا، وفي الرواية العربية نجد في ثلاثية الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، حيث تداخل عاشقان يحمل كل منهما اسم خالد بن طوبال، أحدهما رسام في »ذاكرة الجسد«، والثاني مصور في »فوضى الحواس« يعيش على أهبة مباغتة، جاهز دائماً لأمر ما، لفرح طارئ أو لفاجعة مرتقبة، كما وصفته الرواية، تماما كمصور يحيى حقي الذي يقول إنه جاهز دائما، حتى إنه في مناسبات الأعراس يحضر قبل المأذون.

 الذاكرة المستباحة

في أيامنا، أصبح تواجد المصور المتجول مظهراً نادراً، لأن كل شخص يحمل معه مصورته الرقمية الصغيرة، وباستطاعته بعد دقائق تخزين كامل محتواها من الصور على شريحة صغيرة، باستطاعتها حمل كم هائل من الصور على ذاكرتها، وفي ظل هذه الوفرة الرقمية أصبح المصور المتجول مهجورا، يقف على استحياء في أماكن نادرة، كما تم استباحة كل مساحات سيطرته التي بدأت تضمر في المدينة وتتلاشى، كما تمت استباحة ذاكرة الأمكنة التي يتجول فيها، واختفى صندوقه السحري وحقيبته التي يحمل على كتفه، والورق الطري الذي يبزغ محملا بالدهشة والفرح من كامرته.

وإن كان الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز في ذاكرته المستباحة نقل موت الأمل في ذاكرة عجزة استباحت الحياة والخرف شيخوختهم في دار مهجورة للمسنين، فطمرت ألق الماضي، فإن أيامنا استباحت ذاكرة المصور المتجول، فكادت أن تصبح مهنة في طي النسيان.