الخصوصية الثقافية العربية
بين متطلبات الحداثة وتحديات العولمة
نواكسوط ، 11/12/2011 - إن التحديات التي تواجهها الخصوصية الثقافية العربية نتيجة لاستفحال ظاهرة العولمة في بعديها الاقتصادي والثقافي وما قد ينجر عن ذلك من مخاطر قمينة بأن تهدد المقومات الأساسية للهوية العربية، مثلت إشكالية مثيرة للاهتمام قد استرعت انتباه العديد من المثقفين العرب، فعالجوها كل من منطلقه الخاص ومنظوره الشخصي.
وها أنا أدلي بدلوي في هذا المضمار تحدوني في ذلك الرغبة في تقديم تقييمي الشخصي لهذه الإشكالية بكل أبعادها. ولقد عمدت في مقاربتي لتلكم الإشكالية إلى تحديد خمسة محاور جعلت منها الأسس التي أقمت عليها بنية الموضوع. وهذه المحاور هي:
لكل أمة ذات حضارة متميزة خصوصية ثقافية متفردة. والخصوصية الثقافية بوجه عام تتمثل في اللغة وكل أشكال التعبير الفني والمعايير الجمالية والمتمثلات السيكولوجية والمعتقدات الروحية والطقوس الدينية والمنظومات القيمية والمسلكيات الاجتماعية وأنماط العيش الخاصة من مسكن وملبس ومأكل. فهي باختصار حصيلة وزبدة كل العناصر التي تميز أمة بعينها عن غيرها من الأمم وتعطيها سمة متميزة وملامح مغايرة تشكل غيرية وذاتية هما قوام الهوية الثقافية والحضارية لتلك الأمة.
إن للعرب كغيرهم من الأمم خصوصية ثقافية متميزة. وترتكز هذه الخصوصية على مقومات أساسية هي :
أ. اللغة العربية بوصفها المادة التي قض منها المنتوج الفكري العربي والوعاء والبوتقة التي افرغ فيها هذا المنتوج فشكلته وقولبته وفقا لعبقريتها الخاصة.
ب. الدين الإسلامي بوصفه المرجعية التي تستند إليها التشريعات المنظمة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسية للمجتمعات العربية والتي تنطلق منها منظومتها القيمية وسلمها المعياري.
ج. الموروث المعرفي الذي تكون عبر العصور نتيجة لتطور العلوم الدينية واللغوية وتشعب المعارف انطلاقا من استقراء واستيعاب وتعميق الموروث الفكري اليوناني والهندي والسرياني والعبري والفارسي... من طرف العلماء والباحثين العرب.
وهذا الموروث العربي الذي هو نتيجة لتراكمات تكونت عبر العصور كان له ارتباط جدلي وثيق بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفها الفضاء العربي عبر الأحقاب.
فقد عرف هذا الفضاء طفرة باهرة دامت من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر ميلادي في كل من المشرق والأندلس بحيث ازدهرت الآداب والفلسفة والعلوم والرياضيات والطب والمعمار والفنون والموسيقى والرقص وكل مظاهر المدنية والتحضر.
ولقد شكل الرصيد المعرفي والحضاري الناجم عن تلك الطفرة الأرضية التي انطلقت منها النهضة الأوربية خلال القرن الخامس عشر عبر ترجمة كل ألوان التراث العربي إلى اللغة اللاتينية من طرف الطلبة والدارسين الذين كانوا يترددون على الجامعات الأندلسية وخاصة جامعتي قرطبة وطليطلة.
وبعد ذلك عرف التراث الثقافي العربي انكماشا تدريجيا وركودا مضطردا اعتبارا من القرن الثاني عشر ميلادي، نتيجة لتضافر عوامل شتى، منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ولعل من أهم هذه العوامل، الهجمات الصليبية المتتالية، واجتياح المغول لبلاد العرب وتقويض الخلافة العباسية في الشرق وبسط السيطرة التركية على العالم العربي ثم سقوط الأندلس ومجيء الاستعمار الأوربي.
كل هذه العوامل أسهمت بشكل مباشر وغير مباشر في تحديد ملامح الخصوصية الثقافية العربية والتأثير في طبيعة العناصر المكونة لها.
كما قد أثرت النهضة الثقافية التي عرفها بدرجات متفاوتة الفضاء العربي على أثر حملة نابليون في بداية القرن التاسع عشر وتبعا لقيام الدول الوطنية عقب انزياح الاستعمار الأوربي خلال القرن المنصرم، اثر كل ذلك في جوهر الخصوصية الثقافية العربية ومضامينها ومرتكزاتها الاديولوجية والمرجعيات المؤطرة لها. ونتيجة لكل هذه المعطيات والعوامل أصبحت الخصوصية الثقافية العربية تتضمن من حيث تركيبتها ومكوناتها جانبا ايجابيا وآخر سلبيا.
أ. الجانب الايجابي للخصوصية الثقافية العربية :
يكمن الجانب الايجابي للخصوصية الثقافية العربية في القيم الدينية المتمثلة أساسا في المساواة والإخاء والصدق والاستقامة والأمانة والبر والرحمة...
كما يكمن في المنظومة الأخلاقية المستمدة من تعاليم الإسلام مثل التكافل والتضامن والإحسان وحسن الخلق وبر الوالدين وصلة الرحم... وفي التقاليد والمسلكيات الاجتماعية والمعاملات البينية التي تولي أهمية كبرى لتماسك النسيج الاجتماعي وصيانة الروابط الأسرية. وإضافة إلى هذا وذاك فإن الخصوصية الثقافية العربية تحيل إلى القيم الفنية والمعايير الجمالية، وأساليب العيش وأنماط السكن والملبس والمأكل النابعة من صميم الحضارة العربية الإسلامية والعاكسة لمنظومتها القيمية ومرجعيتها الدينية والمجسدة لمثلها السامية مثل الاتزان والاعتدال والوسطية.
ب. الجانب السلبي للخصوصية الثقافية العربية :
للخصوصية الثقافية العربية جوانب سلبية لا بد من ذكرها وتتمثل في الدغمائية والذكورية (Le machisme) والسلطوية (L'autoritarisme) وقد تجلت هذه العناصر المكونة للذهنية العربية على الصعيد الاجتماعي والسياسي والفكري.
فعلى الصعيد الاجتماعي تظهر بوضوح في نفوذ الأب الساحق على كل أفراد أسرته على نحو لا مجال معه للنقاش والحوار والتفا كر. كما تظهر في سيطرة الرجل المطلقة على المرأة - في جل المجتمعات العربية – وإصراره على تغييبها وحصر وظيفتها الاجتماعية وغاية وجودها في توفير المتعة الجنسية وإنجاب الأطفال والسهر على تدبير شؤون البيت. وقد ترتب عن هذا الموقف تهميش المرأة وانزواؤها ومنعها من المشاركة في الشأن العام مما أدى إلى تعطيل طاقاتها ومنع مساهمتها في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ضمن حيز هام من الفضاء العربي.
وعلى الصعيد السياسي أدت الذهنية العربية التي اشرنا إلى مكوناتها، إلى قيام أنظمة سلطوية قمعية تفرض على شعوبها سياسات شمولية تقوم على الجبروت والتعسف والاستبداد وتمارس مصادرة الحريات الأساسية وانتهاك حقوق الإنسان وترفض التعددية السياسية وتسد الباب في وجه التداول السلمي للسلطة.
وعلى الصعيد الفكري أدت إلى تضييق الخناق على حرية الرأي والفكر والمعتقد وإلى فرض الرقابة على حرية الصحافة والنشر إضافة إلى الإصرار على فرض أحادية فكرية قاتلة. وذلك عن طريق الأغراء والترغيب طورا والتهديد والترهيب طورا آخر.
فترتب عن ذلك تراجع كبير في الإنتاج الثقافي وانحسار ملموس في الإبداع الفني وتقلص ملحوظ في البحث العلمي. فساد الساحة الثقافية جمود بين دفع العديد من رجال الثقافة والفن إلى الهجرة إلى أوروبا وأميركا بحثا عن مناخ علمي ملائم وجو سياسي موات للخلق والإبداع دون مضايقات أو ضغوط.
تلكم بإيجاز هي الملامح الأساسية المميزة للخصوصية الثقافية العربية وتلكم هي مقوماتها كما تشكلت عبر مختلف مراحل التاريخ العربي. فما هي القيمة الحقيقية للخصوصية الثقافية العربية وما مدى صلاحيتها واستجابتها لمتطلبات العصرنة والحداثة والتحولات الجذرية التي تعرفها المجتمعات البشرية في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية الغير مسبوقة التي تولدت عن ظاهرة العولمة؟
إن تقييم الخصوصية الثقافية العربية لكي يكون مفيدا وباعثا على التأمل والتفكير فإنه يجب أن يتم على ضوء السياق الاقتصادي والاجتماعي الذي سينجر عن العولمة وفي منظور الأنماط الثقافية والفكرية التي ستقود هذه العولمة إلى انتشارها وسيطرتها عبر العالم.
وهنا قد بجدر التوقف لحظة لاستكناه طبيعة العولمة واستبيان أبعادها وتداعياتها.
أ. البعد الاقتصادي والسياسي للعولمة :
إذا أردنا أن نقدم تعريفا مبسطا للعولمة في بعدها الاقتصادي فإنه بإمكاننا القول بأنها تعني إزالة كل الحواجز والعوائق المادية والتشريعية والتنظيمية التي من شأنها أن تعيق التدفق الحر للبضائع والرساميل بين بلدان العالم. وبعبارة أخرى فإنها تعني فتح الحدود بشكل مطلق على مستوى كل البلدان أمام تنقل الأشخاص والبضائع واستثمار الأموال وصولا إلى إقامة مؤسسات صناعية وخدماتية ومالية ترمي إلى تحقيق أكبر ربح ممكن في اقصر الآجال بصرف النظر عما قد يتسبب فيه ذلك من سحق للمؤسسات المحلية الناشئة الضعيفة الإنتاجية والتنافسية وعما قد يلحقه من أضرار بالغة بقطاعات اجتماعية واسعة.
فالعولمة إذا هي فتح الحدود أمام الشركات العالمية العابرة للقارات وإلغاء سلطة الحكومات وتقليص السيادة الوطنية للبلدان وتحويل حكوماتها إلى حراس يسهرون على الدفاع عن مصالح الشركات العالمية العملاقة والمؤسسات المالية الأخطبوطية ويوفرون لها الأمن والاستقرار الضروريين لديمومة الظروف الملائمة لتحقيق أرباح متنامية
بهدف تنمية مضطردة لثروات هذه المؤسسات وزيادة قدراتها على تعاطي المضاربات بمبالغ خيالة في أسواق النقد عبر البلدان المصنعة، وذلك دون إعارة أي اهتمام لما يسود لعالم من مجاعات وأمراض وجهل وتخلف لم يعد من صالح الإنسانية تجاهلها و التغاضي عنها ؛ لما قد تقود إليه من تداعيات خطيرة على الأمن والاستقرار عبر العالم.
ب. البعد الثقافي للعولمة :
إذا كانت العولمة الاقتصادية تستهدف فتح الحدود على مصراعيها أمام السلع والمستثمرين والرساميل وتقزيم الحكومات وتحجيم السيادة الوطنية وتحويل العالم إلى سوق مترامي الأطراف، فإن البعد الثقافي لهذه الظاهرة يتمثل في فتح الحدود الجوية بل وخلق سماء مفتوحة لإفساح المجال أمام تدفق المعلومات بواسطة الأقمار الاصطناعية التي يكتظ بها الفضاء الخارجي، وعبر القنوات الفضائية ومن خلال شبكات الانترنت والطرق السريعة للمعلومات وغير ذلك من الوسائل الأخرى.
كل هذه النواقل قد تمت تعبئتها لبث وإشعاع كم هائل من المعطيات والمعلومات والبرامج والمنتجات الثقافية علمية كانت أم أدبية أم فنية، وإضافة إلى مختلف أنواع المعلومات وشتى أصناف المعارف التي تبث عبر الاقنية الالكترونية الفضائية وغيرها، فثمة وسائط ثقافية أخرى تغزو الأسواق العالمية على نحو غير مسبوق وتتمثل في الكتب والمجلات والصحف وكتب الأطفال والأشرطة والأقراص المضغوطة وبرمجيات الحواسب
والألعاب الالكترونية على اختلاف أنواعها وأشكالها. ويتم إنتاج هذا الكم الهائل والمتنوع من الوسائط الثقافية بفضل التطور المذهل الذي عرفته التكنولوجيا الثقافية والترفيهية والذي هو في ازدياد مضطرد.
كل هذا الإنتاج الثقافي بشتى مكنوناته والذي سخرت أنواع متباينة من الوسائل الالكترونية لبثه عبر أنحاء المعمور، هو في الأساس إنتاج غربي أمريكي وأوربي ومن ثم فإنه يعكس القيم الاجتماعية والمثل الأخلاقية والمعايير الجمالية للأمم الغربية ذات المرجعية اليهودية-المسيحية والخلفية الثقافية اليونانية-الرومانية.
ومن ثم فهو ينوه بالمنظومات القيمية والممارسات والمسلكيات الاجتماعية والأنماط المؤسسية والأساليب السائدة في المجتمعات الغربية. ويقدمها على أنها النماذج المثلى للتقدم والرقي والتحضر المتاحة للمجموعة البشرية.
هذان بإيجاز شديد هما البعدان الاقتصادي والثقافي للعولمة وقد نتساءل هنا هل العولمة في بعديها هذين سلبية على طول الخط؟ أم أن لها جانبا سلبيا وآخر إيجابيا؟
اعتقد شخصيا أن الأمر هو بالفعل كذلك. وفي ما يلي نتفحص هذه المقولة.
ج. الجانب السلبي للعولمة :
إن الجانب السلبي للبعد الاقتصادي للعولمة يتمثل أساسا في فقدان السيادة الوطنية لفائدة الشركات المتعددة الجنسيات العملاقة. كما يتمثل في تحرر هذه الشركات وتحللها المطلق من قيود القوانين والتشريعات المنظمة لمختلف العلائق على الصعد المحلية والدولية. ويتمثل أيضا في سيطرة اللبرالية المتوحشة التي هي عبارة عن "داروينية" اقتصادية واجتماعية لا ترحم ولا مكان فيها لمن هو ضعيف وغير ذي تنافسية شديدة.
أما الجانب السلبي في البعد الثقافي للعولمة فإنه يكمن في السعي الحثيث إلى فرض اللغات الغربية وخاصة اللغة الانجليزية على العالم والعمل على تقديم القيم الاجتماعية والأخلاقية والمعايير الجمالية وأساليب العيش الأورو-آمركية على أنها النموذج الأمثل والقدوة المثالية التي يجب الاستناس بها بل وإحلالها محل سواها من المنظومات القيمية الأخرى. وهذا المسعى يهدف في التحليل النهائي إلى صب كافة الذهنيات وسائر الثقافات في قوالب واحدة وموحدة،و ينم عن تمحور مفرط حول الذات وصلف وأنانية ليس لهما ما يبررهما كما أنه يشكل خطرا جسيما على التنوع الثقافي والتعددية الحضارية والحق في المغايرة والاختلاف.
د. الجانب الايجابي للعولمة :
الجانب الايجابي للعولمة في بعدها الاقتصادي يكمن في تكثيف التواصل بين كافة المجتمعات البشرية وربطها وتماهيها مع بعضها.
ويكمن كذلك في إمكانية اقتسام فوائد ونتائج الاختراعات والاكتشافات والتجارب في مختلف المجالات، وفي الشعور المتنامي لدى الجميع بضرورة بلوغ الامتياز وتحقيق شروط التنافسية وما تقتضيه من جودة أداء ووظيفية ومهنية، وما قد يقود إليه كل ذلك من تحسن مستمر في الأداء وارتفاع مضطرد للمستوى على مختلف الصعد، استجابة لمتطلبات التنافسية ونزولا عند شروط الإنتاجية.
ويتمثل الجانب الايجابي للبعد الثقافي للعولمة في إشاعة وتعميم الحريات الفردية كحرية التعبير وحرية الفكر وحرية المعتقد. والحريات العامة كحرية التنظيم وحرية الصحافة والنشر وكافة الحريات النقابية والسياسية وغيرها. فهذه الحريات هي المرتكزات التي تقوم عليها التعددية الفكرية والسياسية وهي قوام الديمقراطية وما تتيحه من حرية للصحافة وفصل للسلط واستقلالية للعدالة وشفافية في تسيير الموارد العامة، وتداول سلمي للسلطة ضمن مجتمعات آمنة ومستقرة.
ورغم ما تقدم ذكره فإنه لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نتساءل هل تمثل العولمة خاصة في بعدها الثقافي خطرا على الهوية العربية ؟
إن الثقافة الغربية التي ساعد قيام سياق العولمة على انتشارها في كل أنحاء المعمور، تكرس الفر دانية (L'individualisme) وما تفضي إليه من أنانية وتمحور حول الذات. وتقدس الحرية الفردية إلى حد الغلو وتصون حرية الرأي والفكر والمعتقد إلى درجة الشطط. وعليه فنتيجة لروح الفر دانية السائدة في المجتمعات الغربية، فإنه لم يعد هناك وجود لقيم الكرم والمروءة والإيثار على النفس. ونتيجة للمغالاة في تقديس الحريات الفردية فقد صارت كل العلائق الاجتماعية هشة ومتداعية ؛ مما أدى إلى انتشار مذهل لظاهرة الطلاق وتفكك الأسر وتراجع مؤسسة الزواج، وإلى شرعنه وتكريس العلاقات الحرة بين النساء والرجال وإقرار الإنجاب خارج روابط الزواج بحيث تتجاوز في الوقت الراهن نسبة الأطفال المولودين خارج إطار الزواج الشرعي 55% في بعض المجتمعات الغربية.
وترتب عن هذه الوضعية ضعف ملحوظ في تماسك الأسر ونقص كبير في حميمية العلاقات بين الآباء والأبناء. كما انجرت عنها إباحية جنسية لا محدودة، بل وقيام علاقات جنسية معلنة ومستساغة اجتماعيا بين مماثلي الجنس الذين قد تم الاعتراف لهم قانونيا بالزواج فيما بينهم وتبني الأطفال.
والظاهر أن الأمور تتطور تدريجيا نحو إلغاء دور الأب والاستعاضة عنه بالتلقيح الاصطناعي. في حين يلاحظ عزوف متزايد للعديد من النساء عن قبول الحمل وممارسة وظيفة الأمومة وتحمل المسؤوليات المتصلة بها. مما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع نسبة الإنجاب في المجتمعات الغربية التي هي الآن مهددة بالشيخوخة وتنامي إعداد المسنين الهرمين على حساب الناشئة الصاعدة.
هذه الممارسات والمسلكيات والقيم التي يعتبرها الغرب النماذج المثلى للرقي والعصرنة والتحضر والتي يحث بشتى الوسائل باقي الأمم على احتذائها والتأسي بها هي في واقع الأمر عوامل تصدع اجتماعي وتردي حضاري. وهي بحكم طبيعتها وتداعياتها لا تمكن ملاءمتها ولا مصالحتها مع المنظومة العربية. ومن ثم يجب فعل كل ما بالإمكان للاحتراز منها والوقوف في وجه تسربها إلى القيمية والمسلكيات الاجتماعية والمقومات الروحية التي تكون سدى ولحمة الخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمعات العربية صيانة لخصوصيتها الثقافية وهويتها الحضارية في جوانبها الايجابية وثوابتها الروحية والأخلاقية.
لكن هل يمكن أن يستشف من هذا أن الخصوصية الثقافية العربية هي من الكمال والمثالية بحيث لا تحتاج إلى تحيين وتحسين وتحديث لمواءمتها مع متطلبات العصر الذي وصلت إليه المجتمعات المتطورة في مستهل القرن الواحد والعشرين الحالي ؟
الجواب هو بالطبع لا! وإذا كان ذلك كذلك، فما العمل ؟
من أجل النهوض بالخصوصية الثقافية العربية والارتقاء بها نحو مستوى يتماشى وطموحات المجتمعات العربية وتطلعاتها فإنه ينبغي:
أ. على الصعيد السياسي :
القضاء على الاستبداد والشمولية والكف عن مصادرة الحريات الأساسية الفردية منها والجماعية. وبالمقابل يجب اعتماد الديمقراطية الاجتماعية والفكرية والسياسية وإقامة دولة القانون وتهيئ الظروف المواتية للتداول السلمي للسلطة وإشراك هيآت المجتمع المدني في تسيير الشأن العام وإطلاق العنان لحرية الصحافة في حدود المسؤولية، وذلك ليتسنى لها أن تنهض بدورها في تنوير وتحسيس وتثقيف الرأي العام العربي مما يزيد من تأهيله لمتابعة مجريات الأمور والحكم عليها من منطلق سليم وموثق.
ب. على الصعيد المؤسسي :
في هذا المضمار يجب أبدال النظام السلطوي المشخصن السائد في جل البلدان العربية بنظام مؤسساتي محايد. وهكذا ينبغي تقوية وتفعيل المؤسسات الإدارية والتمثيلية والتشريعية والنقابية والجمعوية والتعاونية وغيرها وإفساح المجال أمام كل منها لكي تمارس مهامها على الوجه الأكمل دون قيود أو ضغوط أو محاولة استتباع أو تدجين من طرف أجهزة وآليات السلطة التنفيذية.
ج. على الصعيد الفكري :
في هذا المجال فإنه ينبغي الإسراع بالقضاء على الأمية المستفحلة في معظم البلدان العربية. ويجب السعي الحثيث إلى تعميم وإجبارية التمدرس. كما ينبغي تفعيل المنظومة التعليمة بحيث تقوم بالإعداد الأمثل للموارد البشرية الضرورية لحاجيات سوق العمل ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية مع مراعاة مقتضيات العصرنة والتحديث.
وينبغي تكريس حرية التعبير والفكر والنشر بحيث يفسح المجال أمام المبدعين العرب
في ميادين الآداب والعلوم والفنون، وأن يتاح لهم أن يساهموا بانتاجاتهم في إثراء الساحة الثقافية العربية دون أية قيود ولا ضغوط ولا مضايقات. مما يوفر عليهم عناء الاغتراب ليكون بمقدورهم التعبير عن آرائهم وتقييماتهم ورؤاهم الفلسفية والاديولوجية والسياسية.
الخلاصـة :
وخلاصة القول فإنه في الوقت الذي يجب فيه الحفاظ على المقومات الأساسية للخصوصية الثقافية والحضارية العربية وبذل قصارى الجهد للحيلولة دون تمييعها ومسخها، فإنه ينبغي في المقابل تحديث مكوناتها الأساسية ما عدى الثوابت منها، لجعلها قادرة على استيعاب الإعلاميات والتكنولوجيا المتقدمة وينبغي أن تنفتح أمام العلوم وتساير متطلباتها وأن تأخذ بأسباب الفكر الحديث وأن تستشرف آفاق عهد ما بعد الحداثة لتتأهب للانسجام معه ومماشاته.
وهذا كله لن يتأتي على الوجه المطلوب ما لم يتم تخطي ضيق الأفق والتزمت وإرادة تقييد الأذهان وتكبيل العقول التي مازالت سائدة في بعض البلدان العربية.
ويمكن القول في الختام إن الخصوصية الثقافية العربية ليست معطاة جامدة متحجرة ولكنها نسق معرفي وقيمي ديناميكي يتطور ويتبلور تبعا لتطور المجتمعات العربية التي تتخذه مرجعية لها.
وسوف تتغير مقومات هذا النسق بقدر درجة التغيير الذي تطمح إليه تلك المجتمعات وتسعى جادة إلى بلوغه وصولا إلى مزيد من التقدم والرقي والازدهار وسعيا إلى احتلال موقع الصدارة بين كبريات الأمم.
أ.محمد الأمين ولد الكتاب
التعريف بمفهوم الخصوصية الثقافية بشكل مجرد. معالم الخصوصية الثقافية العربية بجانبيها الايجابي والسلبي. تحديد ماهية العولمة وأبعادها وجوانبها السلبية والايجابية. أخطار العولمة في بعدها الثقافي على الهوية الثقافية العربية. السبيل إلى تكييف الخصوصية الثقافية العربية مع متطلبات العصر على الصعد السياسية والمؤسسية والفكرية. 1- تعريف مفهوم الخصوصية الثقافية بشكل مجرد : 2- معالم الخصوصية الثقافية العربية : 3- العولمة وماهيتها : 4- أخطار البعد الثقافي للعولمة على الهوية الثقافية العربية : 5- السبيل إلى تكييف الخصوصية الثقافية العربية مع متطلبات العصر :
بين متطلبات الحداثة وتحديات العولمة
نواكسوط ، 11/12/2011 - إن التحديات التي تواجهها الخصوصية الثقافية العربية نتيجة لاستفحال ظاهرة العولمة في بعديها الاقتصادي والثقافي وما قد ينجر عن ذلك من مخاطر قمينة بأن تهدد المقومات الأساسية للهوية العربية، مثلت إشكالية مثيرة للاهتمام قد استرعت انتباه العديد من المثقفين العرب، فعالجوها كل من منطلقه الخاص ومنظوره الشخصي.
وها أنا أدلي بدلوي في هذا المضمار تحدوني في ذلك الرغبة في تقديم تقييمي الشخصي لهذه الإشكالية بكل أبعادها. ولقد عمدت في مقاربتي لتلكم الإشكالية إلى تحديد خمسة محاور جعلت منها الأسس التي أقمت عليها بنية الموضوع. وهذه المحاور هي:
لكل أمة ذات حضارة متميزة خصوصية ثقافية متفردة. والخصوصية الثقافية بوجه عام تتمثل في اللغة وكل أشكال التعبير الفني والمعايير الجمالية والمتمثلات السيكولوجية والمعتقدات الروحية والطقوس الدينية والمنظومات القيمية والمسلكيات الاجتماعية وأنماط العيش الخاصة من مسكن وملبس ومأكل. فهي باختصار حصيلة وزبدة كل العناصر التي تميز أمة بعينها عن غيرها من الأمم وتعطيها سمة متميزة وملامح مغايرة تشكل غيرية وذاتية هما قوام الهوية الثقافية والحضارية لتلك الأمة.
إن للعرب كغيرهم من الأمم خصوصية ثقافية متميزة. وترتكز هذه الخصوصية على مقومات أساسية هي :
أ. اللغة العربية بوصفها المادة التي قض منها المنتوج الفكري العربي والوعاء والبوتقة التي افرغ فيها هذا المنتوج فشكلته وقولبته وفقا لعبقريتها الخاصة.
ب. الدين الإسلامي بوصفه المرجعية التي تستند إليها التشريعات المنظمة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسية للمجتمعات العربية والتي تنطلق منها منظومتها القيمية وسلمها المعياري.
ج. الموروث المعرفي الذي تكون عبر العصور نتيجة لتطور العلوم الدينية واللغوية وتشعب المعارف انطلاقا من استقراء واستيعاب وتعميق الموروث الفكري اليوناني والهندي والسرياني والعبري والفارسي... من طرف العلماء والباحثين العرب.
وهذا الموروث العربي الذي هو نتيجة لتراكمات تكونت عبر العصور كان له ارتباط جدلي وثيق بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفها الفضاء العربي عبر الأحقاب.
فقد عرف هذا الفضاء طفرة باهرة دامت من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر ميلادي في كل من المشرق والأندلس بحيث ازدهرت الآداب والفلسفة والعلوم والرياضيات والطب والمعمار والفنون والموسيقى والرقص وكل مظاهر المدنية والتحضر.
ولقد شكل الرصيد المعرفي والحضاري الناجم عن تلك الطفرة الأرضية التي انطلقت منها النهضة الأوربية خلال القرن الخامس عشر عبر ترجمة كل ألوان التراث العربي إلى اللغة اللاتينية من طرف الطلبة والدارسين الذين كانوا يترددون على الجامعات الأندلسية وخاصة جامعتي قرطبة وطليطلة.
وبعد ذلك عرف التراث الثقافي العربي انكماشا تدريجيا وركودا مضطردا اعتبارا من القرن الثاني عشر ميلادي، نتيجة لتضافر عوامل شتى، منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ولعل من أهم هذه العوامل، الهجمات الصليبية المتتالية، واجتياح المغول لبلاد العرب وتقويض الخلافة العباسية في الشرق وبسط السيطرة التركية على العالم العربي ثم سقوط الأندلس ومجيء الاستعمار الأوربي.
كل هذه العوامل أسهمت بشكل مباشر وغير مباشر في تحديد ملامح الخصوصية الثقافية العربية والتأثير في طبيعة العناصر المكونة لها.
كما قد أثرت النهضة الثقافية التي عرفها بدرجات متفاوتة الفضاء العربي على أثر حملة نابليون في بداية القرن التاسع عشر وتبعا لقيام الدول الوطنية عقب انزياح الاستعمار الأوربي خلال القرن المنصرم، اثر كل ذلك في جوهر الخصوصية الثقافية العربية ومضامينها ومرتكزاتها الاديولوجية والمرجعيات المؤطرة لها. ونتيجة لكل هذه المعطيات والعوامل أصبحت الخصوصية الثقافية العربية تتضمن من حيث تركيبتها ومكوناتها جانبا ايجابيا وآخر سلبيا.
أ. الجانب الايجابي للخصوصية الثقافية العربية :
يكمن الجانب الايجابي للخصوصية الثقافية العربية في القيم الدينية المتمثلة أساسا في المساواة والإخاء والصدق والاستقامة والأمانة والبر والرحمة...
كما يكمن في المنظومة الأخلاقية المستمدة من تعاليم الإسلام مثل التكافل والتضامن والإحسان وحسن الخلق وبر الوالدين وصلة الرحم... وفي التقاليد والمسلكيات الاجتماعية والمعاملات البينية التي تولي أهمية كبرى لتماسك النسيج الاجتماعي وصيانة الروابط الأسرية. وإضافة إلى هذا وذاك فإن الخصوصية الثقافية العربية تحيل إلى القيم الفنية والمعايير الجمالية، وأساليب العيش وأنماط السكن والملبس والمأكل النابعة من صميم الحضارة العربية الإسلامية والعاكسة لمنظومتها القيمية ومرجعيتها الدينية والمجسدة لمثلها السامية مثل الاتزان والاعتدال والوسطية.
ب. الجانب السلبي للخصوصية الثقافية العربية :
للخصوصية الثقافية العربية جوانب سلبية لا بد من ذكرها وتتمثل في الدغمائية والذكورية (Le machisme) والسلطوية (L'autoritarisme) وقد تجلت هذه العناصر المكونة للذهنية العربية على الصعيد الاجتماعي والسياسي والفكري.
فعلى الصعيد الاجتماعي تظهر بوضوح في نفوذ الأب الساحق على كل أفراد أسرته على نحو لا مجال معه للنقاش والحوار والتفا كر. كما تظهر في سيطرة الرجل المطلقة على المرأة - في جل المجتمعات العربية – وإصراره على تغييبها وحصر وظيفتها الاجتماعية وغاية وجودها في توفير المتعة الجنسية وإنجاب الأطفال والسهر على تدبير شؤون البيت. وقد ترتب عن هذا الموقف تهميش المرأة وانزواؤها ومنعها من المشاركة في الشأن العام مما أدى إلى تعطيل طاقاتها ومنع مساهمتها في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ضمن حيز هام من الفضاء العربي.
وعلى الصعيد السياسي أدت الذهنية العربية التي اشرنا إلى مكوناتها، إلى قيام أنظمة سلطوية قمعية تفرض على شعوبها سياسات شمولية تقوم على الجبروت والتعسف والاستبداد وتمارس مصادرة الحريات الأساسية وانتهاك حقوق الإنسان وترفض التعددية السياسية وتسد الباب في وجه التداول السلمي للسلطة.
وعلى الصعيد الفكري أدت إلى تضييق الخناق على حرية الرأي والفكر والمعتقد وإلى فرض الرقابة على حرية الصحافة والنشر إضافة إلى الإصرار على فرض أحادية فكرية قاتلة. وذلك عن طريق الأغراء والترغيب طورا والتهديد والترهيب طورا آخر.
فترتب عن ذلك تراجع كبير في الإنتاج الثقافي وانحسار ملموس في الإبداع الفني وتقلص ملحوظ في البحث العلمي. فساد الساحة الثقافية جمود بين دفع العديد من رجال الثقافة والفن إلى الهجرة إلى أوروبا وأميركا بحثا عن مناخ علمي ملائم وجو سياسي موات للخلق والإبداع دون مضايقات أو ضغوط.
تلكم بإيجاز هي الملامح الأساسية المميزة للخصوصية الثقافية العربية وتلكم هي مقوماتها كما تشكلت عبر مختلف مراحل التاريخ العربي. فما هي القيمة الحقيقية للخصوصية الثقافية العربية وما مدى صلاحيتها واستجابتها لمتطلبات العصرنة والحداثة والتحولات الجذرية التي تعرفها المجتمعات البشرية في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية الغير مسبوقة التي تولدت عن ظاهرة العولمة؟
إن تقييم الخصوصية الثقافية العربية لكي يكون مفيدا وباعثا على التأمل والتفكير فإنه يجب أن يتم على ضوء السياق الاقتصادي والاجتماعي الذي سينجر عن العولمة وفي منظور الأنماط الثقافية والفكرية التي ستقود هذه العولمة إلى انتشارها وسيطرتها عبر العالم.
وهنا قد بجدر التوقف لحظة لاستكناه طبيعة العولمة واستبيان أبعادها وتداعياتها.
أ. البعد الاقتصادي والسياسي للعولمة :
إذا أردنا أن نقدم تعريفا مبسطا للعولمة في بعدها الاقتصادي فإنه بإمكاننا القول بأنها تعني إزالة كل الحواجز والعوائق المادية والتشريعية والتنظيمية التي من شأنها أن تعيق التدفق الحر للبضائع والرساميل بين بلدان العالم. وبعبارة أخرى فإنها تعني فتح الحدود بشكل مطلق على مستوى كل البلدان أمام تنقل الأشخاص والبضائع واستثمار الأموال وصولا إلى إقامة مؤسسات صناعية وخدماتية ومالية ترمي إلى تحقيق أكبر ربح ممكن في اقصر الآجال بصرف النظر عما قد يتسبب فيه ذلك من سحق للمؤسسات المحلية الناشئة الضعيفة الإنتاجية والتنافسية وعما قد يلحقه من أضرار بالغة بقطاعات اجتماعية واسعة.
فالعولمة إذا هي فتح الحدود أمام الشركات العالمية العابرة للقارات وإلغاء سلطة الحكومات وتقليص السيادة الوطنية للبلدان وتحويل حكوماتها إلى حراس يسهرون على الدفاع عن مصالح الشركات العالمية العملاقة والمؤسسات المالية الأخطبوطية ويوفرون لها الأمن والاستقرار الضروريين لديمومة الظروف الملائمة لتحقيق أرباح متنامية
بهدف تنمية مضطردة لثروات هذه المؤسسات وزيادة قدراتها على تعاطي المضاربات بمبالغ خيالة في أسواق النقد عبر البلدان المصنعة، وذلك دون إعارة أي اهتمام لما يسود لعالم من مجاعات وأمراض وجهل وتخلف لم يعد من صالح الإنسانية تجاهلها و التغاضي عنها ؛ لما قد تقود إليه من تداعيات خطيرة على الأمن والاستقرار عبر العالم.
ب. البعد الثقافي للعولمة :
إذا كانت العولمة الاقتصادية تستهدف فتح الحدود على مصراعيها أمام السلع والمستثمرين والرساميل وتقزيم الحكومات وتحجيم السيادة الوطنية وتحويل العالم إلى سوق مترامي الأطراف، فإن البعد الثقافي لهذه الظاهرة يتمثل في فتح الحدود الجوية بل وخلق سماء مفتوحة لإفساح المجال أمام تدفق المعلومات بواسطة الأقمار الاصطناعية التي يكتظ بها الفضاء الخارجي، وعبر القنوات الفضائية ومن خلال شبكات الانترنت والطرق السريعة للمعلومات وغير ذلك من الوسائل الأخرى.
كل هذه النواقل قد تمت تعبئتها لبث وإشعاع كم هائل من المعطيات والمعلومات والبرامج والمنتجات الثقافية علمية كانت أم أدبية أم فنية، وإضافة إلى مختلف أنواع المعلومات وشتى أصناف المعارف التي تبث عبر الاقنية الالكترونية الفضائية وغيرها، فثمة وسائط ثقافية أخرى تغزو الأسواق العالمية على نحو غير مسبوق وتتمثل في الكتب والمجلات والصحف وكتب الأطفال والأشرطة والأقراص المضغوطة وبرمجيات الحواسب
والألعاب الالكترونية على اختلاف أنواعها وأشكالها. ويتم إنتاج هذا الكم الهائل والمتنوع من الوسائط الثقافية بفضل التطور المذهل الذي عرفته التكنولوجيا الثقافية والترفيهية والذي هو في ازدياد مضطرد.
كل هذا الإنتاج الثقافي بشتى مكنوناته والذي سخرت أنواع متباينة من الوسائل الالكترونية لبثه عبر أنحاء المعمور، هو في الأساس إنتاج غربي أمريكي وأوربي ومن ثم فإنه يعكس القيم الاجتماعية والمثل الأخلاقية والمعايير الجمالية للأمم الغربية ذات المرجعية اليهودية-المسيحية والخلفية الثقافية اليونانية-الرومانية.
ومن ثم فهو ينوه بالمنظومات القيمية والممارسات والمسلكيات الاجتماعية والأنماط المؤسسية والأساليب السائدة في المجتمعات الغربية. ويقدمها على أنها النماذج المثلى للتقدم والرقي والتحضر المتاحة للمجموعة البشرية.
هذان بإيجاز شديد هما البعدان الاقتصادي والثقافي للعولمة وقد نتساءل هنا هل العولمة في بعديها هذين سلبية على طول الخط؟ أم أن لها جانبا سلبيا وآخر إيجابيا؟
اعتقد شخصيا أن الأمر هو بالفعل كذلك. وفي ما يلي نتفحص هذه المقولة.
ج. الجانب السلبي للعولمة :
إن الجانب السلبي للبعد الاقتصادي للعولمة يتمثل أساسا في فقدان السيادة الوطنية لفائدة الشركات المتعددة الجنسيات العملاقة. كما يتمثل في تحرر هذه الشركات وتحللها المطلق من قيود القوانين والتشريعات المنظمة لمختلف العلائق على الصعد المحلية والدولية. ويتمثل أيضا في سيطرة اللبرالية المتوحشة التي هي عبارة عن "داروينية" اقتصادية واجتماعية لا ترحم ولا مكان فيها لمن هو ضعيف وغير ذي تنافسية شديدة.
أما الجانب السلبي في البعد الثقافي للعولمة فإنه يكمن في السعي الحثيث إلى فرض اللغات الغربية وخاصة اللغة الانجليزية على العالم والعمل على تقديم القيم الاجتماعية والأخلاقية والمعايير الجمالية وأساليب العيش الأورو-آمركية على أنها النموذج الأمثل والقدوة المثالية التي يجب الاستناس بها بل وإحلالها محل سواها من المنظومات القيمية الأخرى. وهذا المسعى يهدف في التحليل النهائي إلى صب كافة الذهنيات وسائر الثقافات في قوالب واحدة وموحدة،و ينم عن تمحور مفرط حول الذات وصلف وأنانية ليس لهما ما يبررهما كما أنه يشكل خطرا جسيما على التنوع الثقافي والتعددية الحضارية والحق في المغايرة والاختلاف.
د. الجانب الايجابي للعولمة :
الجانب الايجابي للعولمة في بعدها الاقتصادي يكمن في تكثيف التواصل بين كافة المجتمعات البشرية وربطها وتماهيها مع بعضها.
ويكمن كذلك في إمكانية اقتسام فوائد ونتائج الاختراعات والاكتشافات والتجارب في مختلف المجالات، وفي الشعور المتنامي لدى الجميع بضرورة بلوغ الامتياز وتحقيق شروط التنافسية وما تقتضيه من جودة أداء ووظيفية ومهنية، وما قد يقود إليه كل ذلك من تحسن مستمر في الأداء وارتفاع مضطرد للمستوى على مختلف الصعد، استجابة لمتطلبات التنافسية ونزولا عند شروط الإنتاجية.
ويتمثل الجانب الايجابي للبعد الثقافي للعولمة في إشاعة وتعميم الحريات الفردية كحرية التعبير وحرية الفكر وحرية المعتقد. والحريات العامة كحرية التنظيم وحرية الصحافة والنشر وكافة الحريات النقابية والسياسية وغيرها. فهذه الحريات هي المرتكزات التي تقوم عليها التعددية الفكرية والسياسية وهي قوام الديمقراطية وما تتيحه من حرية للصحافة وفصل للسلط واستقلالية للعدالة وشفافية في تسيير الموارد العامة، وتداول سلمي للسلطة ضمن مجتمعات آمنة ومستقرة.
ورغم ما تقدم ذكره فإنه لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نتساءل هل تمثل العولمة خاصة في بعدها الثقافي خطرا على الهوية العربية ؟
إن الثقافة الغربية التي ساعد قيام سياق العولمة على انتشارها في كل أنحاء المعمور، تكرس الفر دانية (L'individualisme) وما تفضي إليه من أنانية وتمحور حول الذات. وتقدس الحرية الفردية إلى حد الغلو وتصون حرية الرأي والفكر والمعتقد إلى درجة الشطط. وعليه فنتيجة لروح الفر دانية السائدة في المجتمعات الغربية، فإنه لم يعد هناك وجود لقيم الكرم والمروءة والإيثار على النفس. ونتيجة للمغالاة في تقديس الحريات الفردية فقد صارت كل العلائق الاجتماعية هشة ومتداعية ؛ مما أدى إلى انتشار مذهل لظاهرة الطلاق وتفكك الأسر وتراجع مؤسسة الزواج، وإلى شرعنه وتكريس العلاقات الحرة بين النساء والرجال وإقرار الإنجاب خارج روابط الزواج بحيث تتجاوز في الوقت الراهن نسبة الأطفال المولودين خارج إطار الزواج الشرعي 55% في بعض المجتمعات الغربية.
وترتب عن هذه الوضعية ضعف ملحوظ في تماسك الأسر ونقص كبير في حميمية العلاقات بين الآباء والأبناء. كما انجرت عنها إباحية جنسية لا محدودة، بل وقيام علاقات جنسية معلنة ومستساغة اجتماعيا بين مماثلي الجنس الذين قد تم الاعتراف لهم قانونيا بالزواج فيما بينهم وتبني الأطفال.
والظاهر أن الأمور تتطور تدريجيا نحو إلغاء دور الأب والاستعاضة عنه بالتلقيح الاصطناعي. في حين يلاحظ عزوف متزايد للعديد من النساء عن قبول الحمل وممارسة وظيفة الأمومة وتحمل المسؤوليات المتصلة بها. مما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع نسبة الإنجاب في المجتمعات الغربية التي هي الآن مهددة بالشيخوخة وتنامي إعداد المسنين الهرمين على حساب الناشئة الصاعدة.
هذه الممارسات والمسلكيات والقيم التي يعتبرها الغرب النماذج المثلى للرقي والعصرنة والتحضر والتي يحث بشتى الوسائل باقي الأمم على احتذائها والتأسي بها هي في واقع الأمر عوامل تصدع اجتماعي وتردي حضاري. وهي بحكم طبيعتها وتداعياتها لا تمكن ملاءمتها ولا مصالحتها مع المنظومة العربية. ومن ثم يجب فعل كل ما بالإمكان للاحتراز منها والوقوف في وجه تسربها إلى القيمية والمسلكيات الاجتماعية والمقومات الروحية التي تكون سدى ولحمة الخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمعات العربية صيانة لخصوصيتها الثقافية وهويتها الحضارية في جوانبها الايجابية وثوابتها الروحية والأخلاقية.
لكن هل يمكن أن يستشف من هذا أن الخصوصية الثقافية العربية هي من الكمال والمثالية بحيث لا تحتاج إلى تحيين وتحسين وتحديث لمواءمتها مع متطلبات العصر الذي وصلت إليه المجتمعات المتطورة في مستهل القرن الواحد والعشرين الحالي ؟
الجواب هو بالطبع لا! وإذا كان ذلك كذلك، فما العمل ؟
من أجل النهوض بالخصوصية الثقافية العربية والارتقاء بها نحو مستوى يتماشى وطموحات المجتمعات العربية وتطلعاتها فإنه ينبغي:
أ. على الصعيد السياسي :
القضاء على الاستبداد والشمولية والكف عن مصادرة الحريات الأساسية الفردية منها والجماعية. وبالمقابل يجب اعتماد الديمقراطية الاجتماعية والفكرية والسياسية وإقامة دولة القانون وتهيئ الظروف المواتية للتداول السلمي للسلطة وإشراك هيآت المجتمع المدني في تسيير الشأن العام وإطلاق العنان لحرية الصحافة في حدود المسؤولية، وذلك ليتسنى لها أن تنهض بدورها في تنوير وتحسيس وتثقيف الرأي العام العربي مما يزيد من تأهيله لمتابعة مجريات الأمور والحكم عليها من منطلق سليم وموثق.
ب. على الصعيد المؤسسي :
في هذا المضمار يجب أبدال النظام السلطوي المشخصن السائد في جل البلدان العربية بنظام مؤسساتي محايد. وهكذا ينبغي تقوية وتفعيل المؤسسات الإدارية والتمثيلية والتشريعية والنقابية والجمعوية والتعاونية وغيرها وإفساح المجال أمام كل منها لكي تمارس مهامها على الوجه الأكمل دون قيود أو ضغوط أو محاولة استتباع أو تدجين من طرف أجهزة وآليات السلطة التنفيذية.
ج. على الصعيد الفكري :
في هذا المجال فإنه ينبغي الإسراع بالقضاء على الأمية المستفحلة في معظم البلدان العربية. ويجب السعي الحثيث إلى تعميم وإجبارية التمدرس. كما ينبغي تفعيل المنظومة التعليمة بحيث تقوم بالإعداد الأمثل للموارد البشرية الضرورية لحاجيات سوق العمل ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية مع مراعاة مقتضيات العصرنة والتحديث.
وينبغي تكريس حرية التعبير والفكر والنشر بحيث يفسح المجال أمام المبدعين العرب
في ميادين الآداب والعلوم والفنون، وأن يتاح لهم أن يساهموا بانتاجاتهم في إثراء الساحة الثقافية العربية دون أية قيود ولا ضغوط ولا مضايقات. مما يوفر عليهم عناء الاغتراب ليكون بمقدورهم التعبير عن آرائهم وتقييماتهم ورؤاهم الفلسفية والاديولوجية والسياسية.
الخلاصـة :
وخلاصة القول فإنه في الوقت الذي يجب فيه الحفاظ على المقومات الأساسية للخصوصية الثقافية والحضارية العربية وبذل قصارى الجهد للحيلولة دون تمييعها ومسخها، فإنه ينبغي في المقابل تحديث مكوناتها الأساسية ما عدى الثوابت منها، لجعلها قادرة على استيعاب الإعلاميات والتكنولوجيا المتقدمة وينبغي أن تنفتح أمام العلوم وتساير متطلباتها وأن تأخذ بأسباب الفكر الحديث وأن تستشرف آفاق عهد ما بعد الحداثة لتتأهب للانسجام معه ومماشاته.
وهذا كله لن يتأتي على الوجه المطلوب ما لم يتم تخطي ضيق الأفق والتزمت وإرادة تقييد الأذهان وتكبيل العقول التي مازالت سائدة في بعض البلدان العربية.
ويمكن القول في الختام إن الخصوصية الثقافية العربية ليست معطاة جامدة متحجرة ولكنها نسق معرفي وقيمي ديناميكي يتطور ويتبلور تبعا لتطور المجتمعات العربية التي تتخذه مرجعية لها.
وسوف تتغير مقومات هذا النسق بقدر درجة التغيير الذي تطمح إليه تلك المجتمعات وتسعى جادة إلى بلوغه وصولا إلى مزيد من التقدم والرقي والازدهار وسعيا إلى احتلال موقع الصدارة بين كبريات الأمم.
أ.محمد الأمين ولد الكتاب
التعريف بمفهوم الخصوصية الثقافية بشكل مجرد. معالم الخصوصية الثقافية العربية بجانبيها الايجابي والسلبي. تحديد ماهية العولمة وأبعادها وجوانبها السلبية والايجابية. أخطار العولمة في بعدها الثقافي على الهوية الثقافية العربية. السبيل إلى تكييف الخصوصية الثقافية العربية مع متطلبات العصر على الصعد السياسية والمؤسسية والفكرية. 1- تعريف مفهوم الخصوصية الثقافية بشكل مجرد : 2- معالم الخصوصية الثقافية العربية : 3- العولمة وماهيتها : 4- أخطار البعد الثقافي للعولمة على الهوية الثقافية العربية : 5- السبيل إلى تكييف الخصوصية الثقافية العربية مع متطلبات العصر :